الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فصل [في أن الرَّكَازَ سَبِيلُ الصَّدَقَاتِ]: قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ سَابِقَةٌ أَرَادَ بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ جَعَلَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ، ثُمَّ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، فَجَعَلَ وَاجِدَ الرَّكَازِ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِظْهَارِهِ لِلْإِمَامِ وَبَيْنَ كَتْمِهِ، ثُمَّ جَعَلَ لِلْإِمَامِ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الرِّكَازُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ خُمُسِهِ مِنْهُ وَبَيْنَ رَدِّهِ عَلَيْهِ، وَعَوَّلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الشِّعْبِيُّ مُنْقَطِعًا: أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَرْبَعَةَ أَوْ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لِأَقْضِيَنَّ فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا، أَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَلَكَ وَخُمُسٌ لِلْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ. وَهَذَا خَطَأٌ، بَلِ الْخُمُسُ مُسْتَحَقٌّ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فِي الرَّكَائِزِ الْخُمُسُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الْخُمُسِ عَلَى نَفْسِهِ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا كَالْعُشْرِ. فَأَمَّا حَدِيثُ الشِّعْبِيِّ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَعْضُهُ يَنْقُضُ بَعْضًا؛ إِذْ زَعَمَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِنَّ الْخُمُسَ لِلْمُسْلِمِينَ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ رَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ؟! وَهَذَا عَنْ عَلِيٍّ مُسْتَنْكَرٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَكَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ. وَهَلِ الْحَدِيثُ أَشْبَهُ بِعَلِيٍّ عليه السلام مِمَّا رَوَاهُ الشِّعْبِيُّ؟ وَلِأَنَّ رَدَّ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَيْءِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَمَنْ وَجَدَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَ غَنِيًّا عِنْدَهُ بِبَعْضِهَا، وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ يَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَدَقَةً هُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا، وَلَوْ جَازَ مِثْلُ هَذَا فِي الرِّكَازِ لَجَازَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَتَنَاقُضِ مَا عَوَّلَ عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ. اهـ. .قال ابن العربي: فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: .المسألة الْأُولَى: [في أن هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ]: .الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [فِي حَقِيقَةِ الصَّدَقَةِ]: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُقَدَّرٌ مُعَيَّنٌ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُقَدَّرٌ فَجَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ؛ إذْ زَعَمَ أَنَّ التَّكْلِيفَ وَالِابْتِلَاءَ إنَّمَا هُوَ فِي نَقْصِ الْأَمْوَالِ، وَذَهَلَ عَنْ التَّوْفِيَةِ لِحَقِّ التَّكْلِيفِ فِي تَعْيِينِ النَّاقِصِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوَازِي التَّكْلِيفَ فِي قَدْرِ النَّاقِصِ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ يُرِيدُ أَنْ يَبْقَى مِلْكُهُ بِحَالِهِ، وَيَخْرُجَ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ، فَإِذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ، وَعَلِقَتْ بِهِ، كَانَ التَّكْلِيفُ قَطْعَ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْمَالِ، فَوَجَبَ إخْرَاجُ ذَلِكَ الْجُزْءِ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِالصَّدَقَةِ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. قُلْنَا: قَدْ أَجَابَ عَنْهُ عُلَمَاؤُنَا بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ يُخَالِفُ الْأُصُولَ، وَعِنْدَهُمْ إذَا خَالَفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْأُصُولَ بَطَلَ فِي نَفْسِهِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّقْوِيمِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُعْطَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ: فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عُرِفَتْ قِيمَتُهَا، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ الْقِيمَةِ إلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ بِتَعَيُّنِ الشَّاتَيْنِ أَوْ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِبَادَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا إنَّمَا جَوَّزَ فِي الْجِيرَانِ ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ السِّنِينَ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إجْزَائِهِ فِي الْأَصْلِ، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ كِتَابَ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ وَعَمِلَ بِهِ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ أَوْلَى مِنْ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ. وَلَعَلَّهُ كَانَ لِقَضِيَّةٍ فِي عَيْنٍ مَخْصُوصَةٍ. .المسألة الثَّالِثَةُ: فِي مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً: وَبِنَاءُ صَدَقَ يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ وَعَضُدُهُ بِهِ، وَمِنْهُ صَدَاقُ الْمَرْأَةِ؛ أَيْ تَحْقِيقُ الْحِلِّ وَتَصْدِيقُهُ بِإِيجَابِ الْمَالِ وَالنِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ. وَيُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِتَصْرِيفِ الْفِعْلِ، يُقَالُ: صَدَّقَ فِي الْقَوْلِ صَدَاقًا وَتَصْدِيقًا، وَتَصَدَّقَتْ بِالْمَالِ تَصَدُّقًا، وَأَصْدَقَتْ الْمَرْأَةُ إصْدَاقًا. وَأَرَادُوا بِاخْتِلَافِ الْفِعْلِ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِهِ فِي الْكُلِّ. وَمُشَابَهَةُ الصِّدْقِ هَاهُنَا لِلصَّدَقَةِ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ مِنْ دِينِهِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ الْمَصِيرُ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدَّانِيَةَ قَنْطَرَةٌ إلَى الْأُخْرَى، وَبَابٌ إلَى السُّوأَى أَوْ الْحُسْنَى عَمِلَ لَهَا، وَقَدَّمَ مَا يَجِدُهُ فِيهَا؛ فَإِنْ شَكَّ فِيهَا أَوْ تَكَاسَلَ عَنْهَا وَآثَرَ عَلَيْهَا بَخِلَ بِمَالِهِ، وَاسْتَعَدَّ لِآمَالِهِ، وَغَفَلَ عَنْ مَآلِهِ. وَفِي كُتُبِ الذِّكْرِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ. .المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ}: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ لَامُ التَّمْلِيكِ؛ كَقَوْلِك: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطَى جَمِيعُهَا لِلْعَامِلَيْنِ عَلَيْهَا. وَاعْتَمَدَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَضَافَ الصَّدَقَةَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ إلَى مُسْتَحِقٍّ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيكِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُسْتَحِقِّينَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ، أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقوله تعالى: {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ}. وَالصَّدَقَةُ مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ». وَهَذَا نَصٌّ فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً. وَحَقَّقَ عُلَمَاؤُنَا الْمَعْنَى، فَقَالُوا: إنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ أُحَالَ بِحَقِّهِ لِمَنْ ضَمِنَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}؛ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو: إنَّ لِي حَقًّا عَلَى خَالِدٍ يُمَاثِلُ حَقَّك يَا عَمْرُو أَوْ يُخَالِفُهُ، فَخُذْهُ مِنْهُ مَكَانَ حَقِّك فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي جِهَةِ الْمَصْرِفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ كَالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُبْطِلُ بِالْكَافِرِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ الرِّزْقُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ الْحَقِّ، ثُمَّ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لِلزَّكَاةِ. قُلْنَا: كَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ: إنَّهُ تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَى الذِّمِّيِّ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ»؛ فَخَصَّصْنَاهُ بِمَا خَصَّصَهُ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ، الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ؛ وَمَا فَهِمَ الْمَقْصُودَ أَحَدٌ فَهْمَ الطَّبَرِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خُلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِسَدِّ خُلَّةِ الْإِسْلَامِ؛ وَذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ مَأْخَذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدِيدِهِمْ. وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَصْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الْأَمَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ حَظَّهُ لَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ، فَكَذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ مِثْلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصَّدَائِيُّ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْته، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك». وَقَدْ قَالَ النَّخَعِيُّ: إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا قَسَّمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ، وَإِلَّا وَضَعَهُ فِي صِنْفٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي قِسْمٍ، وَإِنْ قَسَّمَهُ الْإِمَامُ اسْتَوْعَبَ الْأَصْنَافَ؛ وَذَلِكَ فِيمَا قَالُوا: إنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيَعُمَّهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ قَسْمُهُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ إنْ قَسَّمَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، فَيَبْحَثُ عَنْ النَّاسِ وَيُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُمْ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِهِمْ. وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحُجَّةِ هُوَ الْأَقْوَى. وَتَحْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمُتَحَصِّلَ مِنْ أَصْنَافِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَائِرُ الْأَصْنَافِ دَاخِلَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا. فَأَمَّا الْعَامِلُونَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ بَيَانَ الْأَصْنَافِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ، فَنَقُولُ وَهِيَ:
|